الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)} {قال معاذ الله} يعني: قال يوسف أعوذ بالله معاذاً {أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} لم يقل سرق تحرزاً عن الكذب لأنه يعلم أخاه ليس بسارق {إنا إذاً لظالمون} يعني إن أخذنا بريئاً بذنب غيره فإن قلت كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجد أبيه عليه ففيه ما فيه من العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة وكيف يجوز ليوسف مع علو منصبه من النبوة والرسالة أن يزور على إخوته ويروج عليهم مثل هذا مع ما فيه من الإيذاء لهم فكيف يليق به هذا كله قلت قد ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة كثيرة وأحسنها وأصحها أنه إنما فعل ذلك بأمر الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله بذلك ليزيد بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه الماضين لله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه فهو المتصرف في خلقه بما يشاء وهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في طول هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم والله أعلم بأحوال عباده. قوله عز وجل: {فلما استيأسوا منه} يعني أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه، وقيل: أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم، وقال أبو عبيدة: استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم {خلصوا نجياً} يعني خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم {قال كبيرهم} يعني في العقل والعلم لا في السن، قال ابن عباس: الكبير يهوذا وكان أعقلهم وقال مجاهد هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته، وقال قتادة والسدي والضحاك: هو روبيل وكان أكبرهم سناً وأحسنهم رأياً في يوسف لأنه نهاهم عن قتله {ألم تعلموا أن أباكم} يعني يعقوب {قد أخذ عليكم موثوقاً} يعني عهداً {من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف} يعني قصرتم في أمر يوسف حتى ضيعتموه {فلن أبرح الأرض} يعني الأرض التي أنا فيها وهي أرض مصر والمعنى فلن أخرج من أرض مصر ولا أفارقها على هذه الصورة {حتى يأذن لي أبي} يعني في الخروج من أرض مصر فيدعوني إليه {أو يحكم الله لي} برد أخي عليّ أو بخروجي معكم وترك أخي أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم حتى أسترد أخي {وهو خير الحاكمين} لأنه يحكم بالحق والعدل والإنصاف، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه الصلاة والسلام.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)} {ارجعوا إلى أبيكم} يعني يقول الأخ الكبير الذي عز على الإقامة بمصر لإخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم يعقوب {فقولوا} له {يا أبانا إن ابنك سرق} إنما قالوا هذه المقالة ونسبوه إلى السرقة لأنهم شاهدوا الصواع وقد أخرج من متاع بنيامين فغلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم {وما شهدنا إلا بما علمنا} يعني ولم نقل ذلك إلا بعد ان رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى ان ابنك في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة: وقرأ ابن عباس والضحاك: سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة وهي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه، وقيل: معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبرعن صنيع ابنك بزعمهم. وقيل: قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه. وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك. وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر {وما كنا للغيب حافظين} قال مجاهد وقتادة: يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك {واسأل القرية التي كنا فيها} يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر، وقال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش {والعير التي أقبلنا فيها} يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب {وإنا لصادقون} يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمراً وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل، وقيل: معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق {فصبر جميل} تقدم تفسيره في أول السورة. وقوله {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج، وقيل: إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً {إنه هو العليم} يعني بحزني ووجدي عليهم {الحكيم} فيما يدبره ويقضيه.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} قوله تعالى: {وتولى عنهم} يعني وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم {وقال يا أسفى على يوسف} الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جيداً جدد حزنه على أخيه مالك: يقول أتبكي كل قبر رأيته *** لقد ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له إن الأسى يبعث الأسى *** فدعني فهذا كله قبر مالك فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن، وقيل: إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة، وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله يا أسفا على يوسف فقال هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله يا أسفا على يوسف معناه يا رب ارحم أسفي على يوسف وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل فلما كان قوله يا أسفاً على يوسف شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه وقيل إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال يا أسفا على يوسف أي أشكوا إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله {وابيضت عيناه من الحزن} أي عمي من شدة الحزن على يوسف قال مقاتل لم يبصر شيئاً ست سنين، وقيل: إنه ضعف بصره من كثرة البكاء وذلك أن الدمع يكثر عند غلبة البكاء فتصير العين كأنها بيضاء من ذلك الماء الخارج من العين {فهو كظيم} أي مكظوم وهو الممتلئ من الحزن الممسك عليه لا يبثه، قال قتادة: وهو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيراً، وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه. وقال ثابت البناني ووهب بن منبه والسدي: إن جبريل عليه الصلاة والسلام دخل على يوسف وهو في السجن فقال له تعرفني أيها الصديق قال يوسف أرى صورة طاهرة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين فقال يوسف فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر الأرض بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين وأن الله قد طهر بك الأرض والسجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال يوسف كيف لي بإسم الصديقين وتعدني من الصالحين المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين قال له إنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذلك سماك الله من الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف فهل لك علم من يعقوب أيها الروح الأمين قال نعم قد ذهب بصره وابتلاه الله بالحزن عليك فهو كظيم ووهب له الصبر الجميل قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلاء قال فما له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفس يوسف وقال ما أبالي مما لقيت إن رأيته. قوله عز وجل: {قالوا} يعني إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لأبيهم {تالله تفتأ تذكر يوسف} يعني لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر عن حبه يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال ولا محذوفة في جواب القسم لأن موضعها معلوم فحذفت للتخفيف كقول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي أي لا أبرح قاعداً وقوله {حتى تكون حرضاً} قال ابن عباس يعني دنفاً وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريباً من الموت، وقال ابن إسحاق: يعني فاسداً لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائباً من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف {أو تكون من الهالكين} يعني من الأموات. فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعياً؟. قلت: إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظناً منا أن الأمر يصير إلى ذلك {قال} يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه {إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر، قال ابن قتيبة: البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هماً فإذا ذكره لغيره كان بثاً فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكوا حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم. قال ابن الجوزي: روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو» وقيل: إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا عقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف أفوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله تعالى وقيل إن الله أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئاً وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين إصنع طعاماً وادع إليه المساكين فصنع طعاماً ثم قال من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر منادياً ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين، وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقاً وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلاً بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها. فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟ قلت: لا وإنما عوقبت يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى الله كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى الله فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألفي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى الله وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء على فقدهما وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئاً مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى الله عز وجل بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام. وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذماً ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا» فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحاً لا حرج فيه على أحد من الناس وقوله {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يعني أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه وروى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له يعقوب أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته الكريم على ربه هل قبضت روح ابني يوسف في الأرواح فقال لا فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته فلذلك قال وأعلم من الله ما لا تعملون وقيل معناه وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره بنوه بسيرة ملك مصر وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله أحسست نفس يعقوب وطمع أن يكون هو يوسف فعند ذلك قال يعني يعقوب.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)} {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف وأخيه، روي عن عبد الله بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله برداً وسلاماً وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وأنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لأخوته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه {ولا تيأسوا} أي ولا تقنطوا {من روح الله} يعني من رحمة الله وقيل من فضل الله وقيل من فرج الله {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين} يعني أن المؤمن على خير يرجوه من الله فيصبر عند البلاء فينال به خيراً ويحمد عند الرخاء فينال به خيراً والكافر بضد ذلك. قوله تعالى: {فلما دخلوا عليه} فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما دخلوا عليه يعني على يوسف {قالوا يا أيها العزيز} يعنون يا أيها الملك والعزيز القادر الممتنع وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ {مسنا وأهلنا الضر} أي الشدة والفقر والجوع وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي ببضاعة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع. وأصل الإزجاء في اللغة: الدفع قليلاً قليلاً والتزجية دفع الشيء لينساق كتزجية الريح السحاب ومنه قول الشاعر: وحاجة غير مزجاة من الحاج *** يعني هي قليلة يسيرة يمكن دفعها وسوقها لقلة الاعناء بها وإنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لمجموعهما فلذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذه البضاعة المزجاة، فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفاً وقيل كانت خلق الغرائر والحبال، وقيل: كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط، وقال الكلبي ومقاتل: كانت حبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال، وقال الزجاج: سميت هذه البضاعة القليلة الرديئة مزجاة من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل من العيش والمعنى جئنا ببضاعة مزجاة لندافع بها الزمان وليست مما يتسع بها، وقيل: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن يدفعها {فأوف لنا الكيل} يعني أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي والمعنى إنا نريد أن تقيم لنا الزائد مقام الناقص والجيد مقام الرديء {وتصدق علينا} يعني وتفضل علينا بما بين الثمين الجيد والرديء ولا تنقصنا، هذا قول أكثر المفسرين قال ابن الأنباري: وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة وليس به واختلف العلماء هل كانت الصدقة حلالاً للأنبياء قبل نبينا أم لا فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم واستدل بهذه الآية وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا إن حال الأنبياء كلهم واحد في تحريم الصدقة عليهم لإنهم ممنوعون من الخضوع للمخلوقين والأخذ منهم، والصدقة أوساخ الناس فلا تحل لهم لأنهم مستغنون بالله عمن سواه. وأجيب عن قوله وتصدق علينا أنهم طلبوا منه أن يجريهم على عادتهم من المسامحة وإيفاء الكيل ونحو ذلك مما كان يفعل بهم من الكرامة وحسن الضيافة لا نفس الصدقة وكره الحسن ومجاهد ان يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا لأن الصدقة لا تكون إلا ممن يبتغي الثواب وروي أن الحسن سمع رجلاً يقول اللهم تصدق عليّ فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل عليّ، وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا يعني برد أخينا علينا {إن الله يجزي المتصدقين} يعني بالثواب الجزيل وقال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن {قال} يعني قال يوسف لإخوته {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله حمل يوسف وهيجه على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته رقة على إخوته فباح بالذي كان يكتم، وقيل: إنه أخرج لهم نسخة الكتاب الذي كتبوه ببيعه من مالك وفي آخره وكتبه يهوذا فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا يا أيها الملك إنه كان لنا عبد فبعناه منه فغاظ ذلك يوسف وقال: إنكم تستحقون العقوبة وأمر بقتلهم فلما ذهبوا بهم ليقتلوهم قال يهوذا كان يعقوب يبكي ويحزن لفقد واحد منا فكيف إذا أتاه الخبر بقتل بنيه كلهم ثم قالوا إن كنت فاعلاً ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين أدركته الرقة عليهم والرحمة فبكى، وقال هذا القول، وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه لم يتمالك أن بكى وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وهذا استفهام يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه وهذا كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ولم يرد بهذا نفس الاستفهام ولكنه أراد تفظيع الأمر وتعظيمه ويجوز أن يكون المعنى هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه. واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} فإن قلت الذي فعلوه بيوسف معلوم ظاهر فما الذي فعلوه بأخيه من المكروه حتى يقول لهم هذه المقالة فإنهم لم يسعوا في حبسه ولا أرادوا ذلك. قلت: إنهم لما فرقوا بينه وبين أخيه يوسف نغصوا عليه عيشه وكانوا يؤذونه كلما ذكر يوسف، وقيل: إنهم قالوا له لما اتهم بأخذ الصواع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيراً {إذ أنتم جاهلون} هذا يجري مجرى العذر لهم يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين وهو وقت الصبا وحالة الجهل وقيل جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف.
{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} قوله عز وجل: {قالوا أئنك لأنت يوسف} قرئ على سبيل الاستفهام وحجة هذه القراءة قال ابن عباس لما قال لهم هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه تبسم فرأوا ثناياه كاللؤلؤ تشبه ثنايا يوسف فشبهوه بيوسف فقالوا استفهاماً أئنك لأنت يوسف؟، وقرئ على الخب وحجته ما قال ابن عباس أيضاً في رواية أخرى عنه: إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج على رأسه وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها فعرفوه بها وقالوا أنت يوسف، وقيل: قالوه على سبيل التوهم ولم يعرفوه حتى {قال أنا يوسف} قال بعض العلماء إنما أظهر الاسم في قوله أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته له وما عوضه الله من النصر والظفر والملك فكأنه قال أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجب ثم بعتموني بأبخس الأثمان ثم صرت إلى ما ترون فكانت تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها ولهذا قال {وهذا أخي} وهم يعرفونه لأنه قصد به أيضاً وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون وهو قوله: {قد منَّ الله علينا} بأن جمع بيننا وقيل منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة، وقيل: منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا {إنه من يتق ويصبر} يعني يتقي الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس، وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن، وقيل: يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} يعني أجر من كان هذا حاله {قالوا} يعني قال إخوة يوسف معتذرين إليه مما صدر منهم في حقه {تالله لقد آثرك الله علينا} أي اختارك وفضلك علينا يقال آثرك الله إيثاراً أي اختارك ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضيل والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والعقل وقال الضحاك عن ابن عباس بالملك وقال أبو صالح عنه بالصبر وقيل بالحلم والصفح علينا وقيل بالحسن وسائر الفضائل التي أعطاها الله عز وجل له دون إخوته وقيل فضله عليهم بالنبوة وأورد على هذا القول أن إخوته كانوا أنبياء أيضاً فليس له عليهم فضل في ذلك وأجيب عنه بأن يوسف فضل عليهم بالرسالة مع النبوة فكان أفضل منهم بهذا الاعتبار لأن من جمعت له النوبة والرسالة كان أفضل ممن خص بالنبوة فقط {وإن كنا لخاطئين} يعني وما كنا في صنعنا بك إلا خاطيئن ولهذا اختير لفظ الخاطئ على المخطئ والفرق بينهما أن يقال خطئ خطأ إذا تعمد وأخطأ إذا كان غير متعمد وقيل يجوز أني كون آثر لفظ خاطئين على مخطيئن لموافقة رؤوس الآي لأن خاطيئن أشبه بما قبلها {قال} يعني يوسف {لا تثريب عليكم} يعني لا تعيير ولا توبيخ عليكم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يوبخها ولا يثرب» أي لا يعيرها بالزنا بعد إقامة الحد عليها وفي محل قوله {اليوم} قولان أحدهما أنه يرجع إلى ما قبله فيكون التقدير لا تثريب عليكم اليوم والمعنى أن هذا اليوم هو يوم التثيرب والتقريع والتوبيخ وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم اليوم ويبتدئ بقوله {يغفر الله لكم}. والقول الثاني: أن اليوم متعلق بقوله يغفر الله لكم فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم ويبتدئ باليوم يغفر الله لكم كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله لا تثريب عليكم بشرهم بقوله اليوم يغفر الله لكم {وهو أرحم الراحمين} ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن حال أبيه فقال ما حال أبي بعدي؟ قالوا ذهب بصره من كثرة البكاء عليك فأعطاهم قميصه.
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} {اذهبوا بقميصي هذا} قال الضحاك كان هذا القميص من نسج الجنة، وقال مجاهد: أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه وكان ذلك القميص قميص إبراهيم وذلك أنه لما جرد من ثيابه وألقي في النار عرياناً أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم، فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة من فضة وسد رأسها وجعلها في عنق يوسف كالتعاويذ لما كان يخاف عليه من العين وكانت لا تفارقه فلما ألقي يوسف في البئر عرياناً أتاه جبريل وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه فلما كان هذا الوقت جاءه جبريل فأمره أن يرسل هذا القميص إلى أبيه لأن فيه ريح الجنة فلا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي في الوقت فدفع ذلك القميص يوسف إلى إخوته وقال اذهبوا بقميصي هذا {فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} قال المحققون: إن علم يوسف أن إلقاء ذلك القميص على وجه يعقوب يوجب رد البصر كان بوحي الله إليه ذلك ويمكن أن يقال إن يوسف لما علم أن أباه قد عمي من كثرة البكاء عليه وضيق الصدر بعث إليه قميصه ليجد ريحه فيزول بكاؤه وينشرح صدره ويفرح قلبه فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البضر فهذا القدر تمكن معرفته من جهة العقل وقوله {وأتوني بأهلكم أجمعين} قال الكلبي: كانوا نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق: كانوا ثلاثة وسبعين ما بين رجل وامرأة {ولما فصلت العير} يعني خرجت من مصر وقيل من عريش مصر متوجهين إلى أرض كنعان {قال أبوهم} يعني: قال يعقوب لولد ولده {إني لأجد ريح يوسف} قيل: إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، وقال مجاهد: أصابت يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاث أيام، وقال ابن عباس: من مسيرة ثمان ليل وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخاً، وقيل: هبت ريح فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد يعقوب ريح الجنة فعلم أنه ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فعلم بذلك أنه من ريح يوسف فلذلك قال: إني لأجد ريح يوسف {لولا أن تفندون} أصل التفنيد من الفند وهو ضعف الرأي وقال ابن الأنباري أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وقال الأصمعي: إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو الفنيد والفند يكون المعنى لولا أن تفندوني أي تنسبوني إلى الخرف وقيل تسفهوني وقيل: تلوموني وقيل تجلهوني وهو قول ابن عباس:، وقال الضحاك تهرموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله {قالوا} يعني أولاد أولاد يعقوب وأهله الذين عنده لأن أولاده لصلبه كانوا غائبين عنه {تالله إنك لفي ضلالك القديم} يعني من ذكر يوسف ولا تنساه لأنه كان عندهم ان يوسف قد مات وهلك ويرون أن يعقوب قد لهج بذكره فلذلك قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم من ذكره والضلال الذهاب عن طريق الصواب.
{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)} {فلما أن جاء البشير} وهو المبشر بخبر يوسف، قال ابن مسعود: جاء البشير بين يدي العير قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما هو يهوذا، قال السدي: قال يهوذا أنا ذهبت بالقميص ملطخاً بالدم إلى يعقوب وأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته. قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج به حافياً حاسراً يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخاً {ألقاه على وجهه} يعني فألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب {فارتد بصيراً} يعني فرجع بصيراً بعد ما كان قد عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف وسروره بعد الحزن {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} يعني من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا، وروي أن يعقوب قال للبشير كيف تركت يوسف قال تركته ملك مصر قال يعقوب ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة. قوله تعالى: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا} يعني قال أولاد يعقوب حين وصلوا إليه وأخذوا يعتذرون إليه مما صنعوا به وبيوسف استغفر لنا أي اطلب لنا غفر ذنوبنا من الله {إنا كنا خاطئين} يعني في صنيعنا {قال سوف أستغفر لكم ربي} قال أكثر المفسرين: إن يعقوب أخر الدعاء والاستغفار لهم إلى وقت السحر لأنه أشرف الأوقات وهو الوقت الذي يقول الله فيه هل من داع فأستجب له فلما انتهى يعقوب إلى وقت السحر قام إلى الصلاة متوجهاً إلى الله تعالى فلما فرغ رفع يديه إلى الله تعالى وقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين قال عكرمة عن ابن عباس: إنه أخر الاستغفار لهم إلى ليلة الجمعة لأنها أشرف الأوقات قال وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة نيفاً وعشرين سنة وقال طاوس أخر الاستغفار إلى وقت السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء وقال الشعبي سوف أستغفر لكم ربي قال حتى أسأل يوسف فإن كان قد عفا عنكم أستغفر لكم ربي {إنه هو الغفور} يعني لذوب عباده {الرحيم} بجميع خلقه قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تثريب عليكم الآية وقول يعقوب سوف أستغفر لكم ربي، قال أصحاب الأخبار إن يوسف عليه الصلاة والسلام بعث مع إخوته إلى أبيه مائتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوه بيعقوب وجميع أهله إلى مصر فلما أتوه تجهز يعقوب للخروج إلى مصر فجمع أهله وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وقال مسروق كانوا ثلاثة وسبعين فلما دنا يعقوب من مصر كلم يوسف الملك الأكبر يعني ملك مصر وعرفه بمجيء أبيه وأهله فخرج يوسف ومعه الملك في أربعة آلاف من الجند وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب عليه الصلاة والسلام وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يد ابنه يهوذا فلما نظر إلى الخيل والناس قال ياهوذا هذا فرعون مصر قال لا بل هذا ابنك يوسف فلما دنا كل واحد من صاحبه أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام فقال له جبريل لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان، وقيل: إنهما نزلا وتعانقا وفعلا كما يفعل الوالد بولده والولد بوالده وبكيا، وقيل: إن يوسف قال لأبيه يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} قوله تعالى: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه} يعني ضم إليه {أبويه} قال أكثر المفسرين: هو أبوه يعقوب وخالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين وقال الحسن هما أبوه وأمه وكانت حية بعد، وقيل: إن الله أحياها ونشرها من قبرها حتى تسجد ليوسف تحقيقاً لرؤياه والأول أصح {وقال ادخلوا مصر} قيل المراد بالدخول الأول في قوله فلما دخلوا على يوسف أرض مصر وذلك حين استقبلهم ثم قال ادخلوا مصر يعني البلد وقيل إنه أراد بالدخول الأأول دخولهم مصر وأراد بالدخول الثاني الاستطيان بها أي أدخلوا مصر مستوطنين فيهما {إن شاء الله آمنين} قيل إن هذا الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وقيل إنه عائد إلى الدخول فعلى هذا يكون قد قال ذلك لهم قبل أن يدخلوا مصر، وقيل: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الاستغفار فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقيل إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم فقال لهم يوسف ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم إن شاء الله فعلى هذا يكون قوله إن شاء الله للتبرك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع علمه أنه لاحق بهم {ورفع أبويه على العرش} يعني على السرير الذي كان يجلس عليه يوسف والرفع النقل إلى لعلو {وخروا له سجداً} يعني يعقوب وخالته ليا وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع ولم يرد به حقيقة السجود مع وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة. فإن قلت كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يسجد له أبوه وهو أكبر منه وأعلى منصباً في النبوة والشيخوخة؟ قلت: يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك لتحقيق رؤياه، ثم في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أنه كان انحناء على سبيل التحية كما تقدم فلا إشكال فيه، والقول الثاني أنه كان حقيقة السجود وهو وضع الجبهة على الأرض وهو مشكل لأن السجود على هذه الصورة لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى، وأجيب عن هذا الإشكال بأن السجود كان في الحقيقة لله تعالى على سبيل الشكر له وإنما كان يوسف كالقبلة كما سجد الملائكة لآدم ويدل على صحة هذا التأويل قوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وظاهر هذا يدل على أنهم لما صعدوا على السرير خروا سجداً لله تعالى ولو كان ليوسف لكان قبل الصعود لأن ذلك أبلغ من التواضع. فإن قلت يدفع صحة هذا التأويل قوله {رأيتهم لي ساجدين} وقوله {خروا له سجداً} فإن الضمير يرجع إلى أقرب المذكورات وهو يوسف عليه الصلاة والسلام. قلت: يحتمل أن يكون المعنى وخروا لله سجداً لأجل يوسف واجتماعهم به وقيل يحتمل أن الله أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية وهي أن إخوة يوسف ربما احتملتهم الأنفة والتكبر عن السجود ليوسف فلما رأوا أن أباهم قد سجد له سجدوا له أيضاً فتكون هذه السجدة على سبيل التحية والتواضع لا على سبيل العبادة وكان ذلك جائزاً في ذلك الزمان فلما جاء الإسلام نسخت هذه الفعلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه {وقال} يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر {قد جعلها ربي حقاً} يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة، وقال أبو صالح عن ابن عباس: اثنتان وعشرون سنة، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي: ست وثلاثون سنة، وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة، وقال عبد الله بن سودون: سبعون سنة، وقال الفضيل بن عياض: ثمانون سنة، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن: أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله {وقد أحسن بي} يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد {إذ أخرجني من السجن} إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالاً للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سبباً لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سبباً لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه {وجاء بكم من البدو} يعني من البادية وأصل البدو والبسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة {قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك {إن ربي لطيف لما يشاء} يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها. قال صاحب المفردات: وقد يعب باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفه بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم، وقوله: إن ربي لطيف لما يشاء، أي حسن الاستخراج تنبيهاً على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب. وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه {إنه هو العليم} يعني بمصالح عباده {الحكيم} في جميع أفعاله. قال أصحاب الأخبار والتواريخ: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام عنه يوسف بمصر أربعاً وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليه السلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعاً وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر. قالوا لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة.
{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} {رب} أي يا رب {قد آتيتني من الملك} يعني من ملك مصر ومن هنا للتبعيض لأنه لم يؤت ملك مصر كله بل كان فوقه ملك آخر والملك عبارة عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير {وعلمتني من تأويل الأحاديث} يعني تعبير الرؤيا {فاطر السموات والأرض} يعني خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. وأصل الفطر الشق يقال فطر ناب البعير إذا شق وظهر وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه {أنت وليي} يعني معيني ومتولي أمري {في الدنيا والآخرة توفني مسلماً} أي اقبضني إليك مسلماً. واختلفوا هل هو طلب للوفاة في الحال أم لا على قولين: أحدهما: أنه سأل الله الوفاة في الحال، قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف قال أصحاب هذا القول وإنه لم يأت عليه أسبوع حتى توفي. والقول الثاني: أنه سأل الوفاة على الإسلام ولم يتمن الموت في الحال قال الحسن إنه عاش بعد هذه سنين كثيرة فعلى هذا القول يكون معنى الآية توفني إذا توفتني على الإسلام فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال، قال بعض العلماء وكلا القولين محتمل لأن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاذ له ولا زوال ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وسلم «لا يتمن أحدكم الموت لضر نزل به» فإن تمني الموت عند وجود الضر ونزول البلاء مكروه والصبر عليه أولى وقوله: {وألحقني بالصالحين} أراد به بدرجة آبائه وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام قال علماء التاريخ عاش يوسف مائة وعشرين سنة وفي التوارة مائة وعشر سنين وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب وقيل عاش بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر. ولما مات يوسف عليه الصلاة والسلام دفنوه في النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر وذلك أنه لما مات يوسف تشاحن الناس فيه فطلب كل أهل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا أن يقتتلوا ثم رأوا أن يدفنوه في النيل بحيث يجري الماء عليه ويتفرق عنه وتصل بركته إلى جميعهم وقال عكرمة إنه دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فنقل إلى الجانب الإيسر فأخصب وأجدب الجانب الأيمن فدفنوه في وسط النيل وقدروه بسلسلة فأخصب الجانبان فبقي إلى أن أخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} قوله عز جل: {ذلك} يعني الذي ذكرت لك يا محمد من قصة يوسف وما جرى له مع إخوته، ثم إنه صار إلى الملك بعد الرق {من أنباء الغيب} يعني أخبار الغيب {نوحيه إليك} يعني الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك يا محمد وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان رجلاً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي أنشأ فيه صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ بين أمة أمية مثله، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب وأبين معان وأفصح عبارة فلعم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر. وقوله تعالى: {وما كنت لديهم} يعني وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب {إذا أجمعوا أمرهم} يعني حين عزموا على إلقاء يوسف صلى الله عليه وسلم في الجب {وهم يمكرون} يعني بيوسف {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وما أكثر الناس يا محمد لو حرصت على إيمانهم بمؤمنين وذلك أن اليهود وقريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم بها على وفق ما عندهم في التوراة لم يسلموا فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقيل له إنهم لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم ففيه تسلية له {وما تسألهم عليه من أجر} يعني على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله من أجر يعني أجراً وجعلا على ذلك {إن هو} أي ما هو يعني القرآن {إلا ذكر} يعني عظة وتذكيراً {للعالمين وكأين من آية} يعني وكم من آية دالة على التوحيد {في السموات والأرض يمرون عليها} يعني لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها {وهم عنها معرضون} أي لا يلتفتون إليها والمعنى ليس إعراضهم عن هذه الآيات الظاهرة الدالة على وحدانية الله تعالى بأعجب من إعراضهم عنك يا محمد {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يعني أن من إيمانهم أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله وإذا قيل لهم من ينزل المطر قالوا الله وهم مع ذلك يعبدون الأصنام. وفي رواية عن ابن عباس: إنهم يقرون أن الله خالقهم فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره فذلك شركهم، وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنها نزلت في تلبية مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال عطاء هذا في الدعاء وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء.
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} يعني عقوبة مجللة تعمهم وقال مجاهد عذاب غشاهم، وقال قتادة: وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع {أو تأتيهم الساعة بغتة} يعني فجأة {وهم لا يشعرون} يعني بقيامها قال ابن عباس: تهيج الصحية بالناس وهم في أسواقهم {قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين {هذه سبيلي} يعني طريقي التي {أدعو} إليها وهي توحيد الله عز وجل ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق المؤدي إلى الله عز وجل وإلى الثواب والجنة {إلى الله} يعني إلى توحيد الله والإيمان به {على بصيرة} يعني على يقين ومعرفة والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل {أنا ومن اتبعني} يعني من آمن بي وصدق بما جئت به أيضاً يدعو إلى الله، وهذا قول الكلبي وابن زيد قال: حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن وقيل تم الكلام عند قوله أدعو إلى الله ثم استأنف على بصيرة أنا ومن اتبعني بعدي أنا على بصيرة ومن اتبعني أيضاً على بصيرة قال ابن عباس إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن. وقال ابن مسعود: ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم. وقوله {سبحان الله} أي وقل سبحان الله يعني تنزيهاً له عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء الأضداد والأنداد {وما أنا من المشركين} يعني وقل يا محمد وما أنا من المشركين الذي أشركوا بالله غيره. قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً} يعني وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالاً مثلك ولم يكونوا ملائكة {نوحي إليهم} هذا جواب لأهل مكة حيث قالوا هلا بعث الله ملكاً والمعنى كيف تعجبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائرالرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك {ومن أهل القرى} يعني من أهل الأمصار والمدن لا من أهل البوادي لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلاً من أهل البوادي، قال الحسن: لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء، وقيل: إنما لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم {أفلم يسيروا في الأرض} يعني هؤلاء المشركين المكذبين {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} يعني كانت عاقبتهم الهلاك لما كذبوا رسلنا فليعتبر هؤلاء بهم وما حل بهم من عذابنا {ولدار الآخرة خير للذين اتقوا} يعني فعلنا هذا بأوليائنا وأهل طاعتنا إذ أنجيناهم عند نزول العذاب بالأمم المكذبة وما في الدار الآخرة خير لهم يعني الجنة لأنها خير من الدنيا وإنماً أضاف الدار إلى الآخرة وإن كانت في الآخرة لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم حق اليقين والحق هو اليقين نفسه {أفلا تعقلون} يعني يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنون.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} قوله عز وجل: {حتى إذا استيأس الرسل} قال صاحب الكشاف: حتى متعلقة بمحذوف دلَّ عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فتراخى نصرهم حتى إذا استيأس الرسل عن النصر، وقال الواحدي: حتى هنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها والمعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم {وظنوا أنهم قد كذبوا} قرأ أهل الكوفة وهم عاصم وحمزة والكسائي كذبوا بالتخفيف ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي أن معناه ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد، وقال أهل المعاني كذبوا من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك ومنه قوله تعالى وقعد الذين كذبوا الله ورسوله قال أبو علي والضمير في قوله وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم والتقدير وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم إهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس إنهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من امهال الله إياهم ولا يمتنع حمل الضمير في ظنوا على المرسل إليهم وإن لم يتقدم لهم ذكر لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي مكذبي الرسل والظن هنا على معنى التوهم والحسبان وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم وقيل معناه وتيقين الرسل أنهم قد كذبوا في وعد قومهم إياهم الإيمان أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا وقال صاحب الكشاف وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حتى حدثتهم بأنهم لا ينصرون أو رجاؤهم كقولهم رجاء صادق ورجاء كاذب والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة وانتظار النصر من الله تعالى وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب، وعن ابن عباس: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر قال وكانوا بشراً وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. قال صاحب الكشاف: فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذي هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلق الميعاد وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال هذا غير معول عليه من جهتين إحداهما أن التفسير ليس عن ابن عباس لكنه من متأول تأول عليه والأخرى أن قوله جاءهم نصرنا دال على أن أهل الكفر ظنوا ما لا يجوز مثله واستضعفوا رسل الله ونصر الله للرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيماً ولا يستحقون ظفراً ولا نصراً وتبرئة الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلاً وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبو بالتشديد ووجه ظاهر وهو أن معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا يعني وأيقنوا يعني الرسل أن المم قد كذبوهم تكذيباً لا يرجى بعده إيمانهم فالظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء واستبطؤوا النصر أتاهم النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم يعني وظنوا بالرسل ظن حسبان أن ربهم قد كذبهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخره عنهم ولطول البلاء بهم لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً وقيل إن هذا التكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى اليقين والتكذيب المتيقن هو من جهة الكفار وعلى القولين جميعاً فالكناية في وظنوا للرسل (خ) عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة عن قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أو كذبوا، قالت: بل كذبهم قومهم فقلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت يا عروة أجل لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها قد كذبوا فقالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك من ربهم قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وفي رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: قال ابن عباس حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا خفيفة قال ذهب لها هنالك وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب قال فلقيت عروة بن الزبير وذكرت ذلك له فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله ورسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم فكانت تقرؤها وظنوا أنهم قد كذبوا مثقلة. وقوله تعالى: {جاءهم نصرنا} يعني جاء نصر الله النبيين {فنجي من نشاء} من عبادنا يعني عند نزول العذاب بالكافرين فننجي المؤمنين المطيعين {ولا يرد بأسنا} يعني عذابنا {عن القوم المجرمين} يعني المشركين قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم} يعني في خبر يوسف وإخوته {عبرة} أي موعظة {لأولي الألباب} يعني يتعظ بها أولو الألباب والعقول الصحيحة ومعناه الاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد والمراد من التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه وإخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية وجمع شملة بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة واليأس من الاجتماع لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب فكانت معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله تعالى قال في أول هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص وقال في آخرها لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فدل على هذه القصة من أحسن القصص وإن فيها عبرة لمن اعتبرها {ما كان حديثاً يفترى} يعني ما كان هذا القرآن حديثاً يفتري ويختلق لأن الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه أو يختلقه لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخلط العلماء ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز فدل ذلك على صدقه وأنه ليس بمفتر {ولكن تصديق الذي بين يديه} يعني ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة من السماء من التوراة والإنجيل وفيه إشارة إلى أن هذه القصة وردت على وجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف {وتفصيل كل شيء} يعني أن هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم {وهدى} يعني إلى كل خير {ورحمة} يعني أنزلناه رحمة {لقوم يؤمنون} لأنهم هم الذين ينتفعون به والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
|